انطلقت الجموع من المصريين تهلل فرحة غير مصدقة بفوز " المحروسة" على بوركينا فاسو. كانت فرحة عارمة و صراخا و نشوة غريبة. الغريب انني ، و إن توقفت عن متابعة كرة القدم وأحزانها منذ فترة طويلة - استخفافا بقدرها حيث كنت أراها الهاءا اجتماعيا او " سيجارة حشيش " يتعاطاها الشعب لينسى همومه - فقد شاركت الناس الفرحة دون ان ادري و انطلقت قفزا كشاب في العشرينات .
تساءلت عند عودتي ماهذا اللذي فعلته ؟ و ما هذه النشوة التي نشعر بها ونحن نشارك بَعضُنَا في فرحة او في مظاهرة او عند حضور حفلة لأحد فرق الموسيقى التي نحبها (كتلك التي نشهدها في حفلات فرق الروك و الميتال)، ما هذا الترابط و الشعور بالرضا الذي نشعر به بانتمائنا الى منتدى أصدقاء هاري بوتر أو علاء الدين.
اكتشفت اننا نتصرف في هذا التظاهرات الاجتماعية كأننا في طقس من الطقوس لانسأل عن تفاصيله ، بل فقط نؤديه مثلنا كالبقية المخلصة معنا، فنتملأ بتلك النشوة الجمعية.
اطلق إميلي دوركايم عالم الاجتماع الشهير على هذه " النشوة أو الطقس " في كتابه " الأشكال الأولية للحياة الدينية " ( The Elementary Forms of Religious Life , 1912) تعبير " الفوران او الانفعال الجمعي collective effervescence " : تلك النشوة التي نشعر بها اثناء مشاركتنا في خبرة او حدث مشترك بيننا و بين مجتمع من الناس. وقال ان المشاعر هذه تشبه تلك التي يشعر بها المنتمون الى جماعات روحية او حتى طوائف غريبة.
و يرى دوركايم ان ذلك الشعور بالامان العاطفي الذي ينتج عن المشاركة الاجتماعية هو احد الأسباب التي أدت الى ظهور الديانات حيث قد خلص من دراسته للمجتماعات البدائية التي تقدس " الطوطم" سواء كان حيوانا او نباتا بوصفه قوى مقدسة او " معبودا" ، فإنها بذلك تعبد المجتمع نفسه الذي يمنح افراده هذا الشعور بالامان. فالطوطم رمز للاله ورمز للمجتمع نفسه.
وخلص دوركايم الى ان الأديان أتت لتلبية حاجة الانسان الطبيعية الى الارتباط و الانتماء بالمجتمع ، فلا دين للفرادى ... الدين للمجتمع. وعلى هذا فان ترك الدين يفقد أصحابه الرباط الاجتماعي ، و يحرم نفسه من تلبية لاحتياج فطري للانتماء و الارتباط.
و لهذا فان نسب الانتحار عند غير المتدينين اعلى بكثير من المتدنيين، بل ان نسب الانتحار عند العذاب اعلى بقدر ملموس من المتزوجين.و الاغرب من ذلك ان الديانة الأكثر طقوسا خاصة الجماعية منها هي التي تخلق لدى أتباعها مستوى اعلى من الارتباط غير تلك التي تجرد من الطقوس ، فقد جرى ملاحظة ان نسب الانتحار مثلا عند البروتستانت لهذا السبب اعلى من الكاثوليك.
و في الواقع ان الرغبة في الانتماء و الترابط احتياج انساني طبيعي يخلق إحساسا بالسعادة، و الشعور بالرضا، و الأمان يحافظ على سلامة الفرد و سلامة المجتمع و ترابطه ، و على المفكرين و المنظرين ان يتركوا الناس تُمارس طقوسها دون تنغيص و تبكيت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق